الفصل الثاني: فاضل ، أزهار على حافة ثقب أسود

فاضل

خرج من باب الجناح الخاص إلى ردهةٍ واسعةٍ مفروشةٍ بسجّاد مغربيّ وثير ،تماماً كما هو الحال مع كل تفاصيل هذا الفندق المفروش بشتّى أنواع الزرابيّ المغربية ذات الغرز الطويلة ، والأروقة الرّخامية ، وقطع الأثاث الباهظة التي تنقلك بتفاصيلها إلى قصور الملوك والنبلاء العثمانيين في العصور الوسطى ،والجدران مزدانة بلوحات ٍ زيتيّة ذات أطر مزخرفة دقيقة الصنع، تحكي كل واحدة منها قصةً مختلفة من أمسيات ألف ليلة وليلة ،فهذه لوحة لأشخاصٍ بعمائم في مجلس علم أو ربما أدب ، وأخرى  لنساءٍ  بفساتين وأوشحة ملوّنة يرقصن حول جارية تضرب على أوتار العود ، وهذه تعكس زرقة البحر أمام صيّاد يتلهّف لإخراج صيده من الماء ، أما هذه .. واتسعت عيناه وهو يتأمل لوحة لفتاة جميلة بملامح عربية وشعرٍ أسود طويل وعينان داكنتان تنظران ناحية البحر ، أذهله المشهد لقد كان وكأن أحداً قام بإخراج هذه الصورة من ذاكرته وطبعها هنا أمامه على هيئة لوحة زيتيّة .

 نعم إنها تماماً كما في ذلك اليوم عندما رآها قرب البحر ، كان خارجاً لتوّه في الصباح الباكر من غرفته في “الشاليه” ليستنشق –بيأس- أولى دفقات الهواء النادي مع خيوط الشمس الأولى على شاطئ الأطلسي في مدينة العيون ،تماما كما نصحه الطبيب .

 فاضل عليك أن تساعد نفسك للخروج مما أنت فيه ، انجرافك إلى دوامة الاكتاب وانغماسك فيها  لن يحلّ شيئاً ، معظم  الأشخاص الذين ينهشهم وحش الكآبة ويسيطر عليهم ، هم أولئك الذين يعلمون أنهم ضحيّة العلاقات الفاشلة التي مرّت بهم ،ضحيّة أشخاصٍ وضعوا ثقتهم بهم .

 يستسيغون الانغماس في الحزن لأنهم ضحايا ، ولا يعلمون أنهم بهذا العمل يصبحون المجرمين الحقيقيين ، والقتلة المباشرين لهذه الروح البريئة ، لا تقتل نفسك بنفسك ، عليك أن تترفّع عمّا حدث لك ، واعلم أن كل بني آدم مصاب ، وإن كان ألمك كبيراً لأنك شخص مشهور ، فهذا لا يعطيك الدافع للهروب من الواقع والناس ، عليك أن تعيش وتحاول ، وتسقط ، وتحاول ثانية طالما هناك حياة .

 يال الأطباء ّ!والنفسيون منهم تحديداً ، يُسمعونك كلاماً مثالياً حول الروح، والنفس ،والأنا، والعلاقات ،والعواطف ، يقزّمون لك المواقف ، ويقلّلون من قيمة ألمك ، ويصفون لك الهواء النقي عند شروق الشّمس .

لماذا لا يعيشون  إذن على الهواء النقيّ وضوء الشمس ؟! هل عليهم ان يأخذوا كل هذه المبالغ فقط ليستمعوا اليك ويصفوا لك الهواء من حولك ؟

 اخرج في رحلة ، تسلّق الجبل ، اشرب من البحر! ، وصفات سحرية ، يا إلهي ماذا لو كان المريض فقيراً ؟! ما انفك يعيش بين جدران إسمنتيّة صفراء بالية ، ولم تسنح له فرصة واحدة ربما لرؤية البحر ؟

ألم يكن واحداً من هؤلاء يوماً ؟!

ماذا كان سيصف له الطبيب حينئذ ؟؟

 اقتربت من البحر أجرّ قدميّ على مضض وأخذت نفساً عميقا ، حبسته قليلاً ثمّ أخرجته ،كانت خيوط الشمس الأولى قد بدأت تنسلّ رويداً رويداً خارجة من أقصى عمق المحيط نحو الأفق ، هالني المنظر ، كانت الشمس تزحف متسلّقة صفحة الماء بلونها البرتقالي الداكن متعلّقاُ ببقايا سواد الليل المنبلج كوحشٍ مفترس او هكذا خيّل إليّ  ، ارتعشت ، كنت خائفاً ، أغمضت عيني للحظات ، لحظات قصيرة كانت كافية لتسرد الشريط الأسود ذاته ،بدأت أصوات طبولٍ كأنها طبول حربٍ تدقّ في أذني ورأسي ، استهلكتُ شهوراً من عمري حتى تتوقف هذه الطبول عن القرع في رأسي ، وها هي تعود ثانية ، لحظات أخرى بعد،  صحف فرنسية ، حبر أسود ، عناوين كبيرة ،

 ” فضيحة بن رويسي ”  ” المطرب الشهير حاول قتل زوجته ”

 ” همجيّة المطرب العربي الأصول تطغى على مظهره المتحضّر ”

  ينسحب مع الماء رويداً رويدأ مستسلماً للموج الذي كان هادراً في ذلك الصباح .

  ” محامي بن رويسي يفاوض الضحيّة لتجنّب دخوله السجن ”

  ” القضاء يحسم الجدل حبس سنتين وغرامة ب 5 ملايين يورو ”

  أضواء آلات تصوير ، حشود غاضبة

 ” جمعيات حقوق المرأة تطالب بتغليظ العقوبة على المتّهم ”

 ” بن رويسي يُودع في مصحّة نفسية بطلب من طبيبه الخاص ”

  يصفع أحدهم الباب في وجهه ، يفتح عينيه ليجد نفسه مشرفاً على الغرق ، خطوتان فقط وتغمره مياه المحيط ، دقيقة بعد ، حتى يكتمل السطر الأخير في الشريط الأسود

 ” اكتشاف جثة بن رويسي بعد انتحاره في المحيط الأطلسي ” .

راقته الفكرة، رفع رأسه ليطالع السماء للمرة الأخيرة ، حلّقت طيور النورس فوق رأسه ، كم تمنى لو كان طائراً يجوب سماء هذا العالم بعيدا عن الناس .

 لم يكن حرّاً ولو لمرة واحدة في حياته ، رغم أنّه عاش في فرنسا بلد الحريّة كما يزعمون ، هراء، ليس للحريّة بلد .

 التفت يميناً مطارداً طائر النورس وهو يفردّ أجنحته البيضاء ، دون أن يشكو الزّحام ، ليس هناك بلاد للحريّة ،ولكن هناك بلاد للزّحام .

 الأرض مليئة بالزّحام ، في غرفة النوم عندما يتكدّس ثمانية أفراد في غرفة واحدة ،

في الشوارع الممتلئة بمئات بل آلاف السيارات ، في طوابير الخبز ، والدّعم ، والانتخاب ، والعمل ،والذلّ ، والموت .

 حقاً لا شيء يستحق البقاء هنا ، وقبل ان يغمض عينيه ، اللّتين كانتا تلاحقان النورس ، كانت هناك تجلس على مقعد خشبي امام البحر تمامًا ،فوق ربوة لا يعرف كيف لم يرها عند وصوله إلى الشاطئ ،  بفستان صيفي أبيض ذي أكمامٍ طويلة ، تعلوه سترة زرقاء بلون السماء ترتفع عن الخصر قليلاً وشالٍ ابيض رقيق يلتفّ حول رقبتها دون أن يغطي شعرها ، ذلك الليل الحالك الطويل الذي كان يستشزر غاضبا مع الرياح.

 أمسكت يداها بالعازل المعدني المثبّت عند نهاية الجرف ، الذي انحدرت منه التلّة الصخريّة نزولاً حتى قاع المحيط ، ترحل بعينيها إلى ما وراء الأفق ،ترفع يدها كل برهة لتسمح وجهها، هل كانت تبكي ؟ ..

 انسحبتُ من الماء وخطوتُ نحو الشاطئ مترنّحاً ،فلينتظر الموت قليلا ً ،فقطار الموت هو الوحيد الذي يبقى بانتظارك  مهما تأخرت على عكس القطارات الأخرى ، لا يبدو أنها شعرت بوجودي، فهدير البحر عالٍ هذا الصباح ، سرت نحو الربوة ، يدفعني يقين أعمى ،بأنّها وجهة الخلاص.

  تَهَبُنا الحياة الفرص الثمينة وقت حاجتنا إليها ، لا وقت رغبتنا بها حتى نستشعر قيمتها الحقيقيّة ، وهي كانت هبتي ، منحتي وخلاصي

هل أكلّمها ؟؟ لا ، ربما من الأفضل أن أقف ممسكاً هاتفي متظاهراً برغبتي في توثيق شروق الشمس ، أولا يجب أن أفعل ذلك حقا؟؟ أليس اليوم يوم ميلادي ؟ ألم تنتشلني هذه الحورية من براثن الموت دون أن تدري ؟

 انتفضت فجأة ، وكأنها استعادت وعيها  للتو ، نظرت إلّي وكأنّي كائن فضائيٌ قد سقط توّاً من السماء ،أدارت وجهها  وبحركة واحدة بارعة جمعت شتات خصلات شعرها واخفتها سريعا تحت شالها الأبيض .

 شعرتُ بمدى الحرج الذي سببته لها ، حاولت قول شيء…. تلعثمت وكأني انطق حروفي الأولى ، انا ….. أسف .. لم أقصد …إخافـتـ ….

 استدارت بعد ان كانت قد مسحت بقايا دموعٍ من عينيها ، وقالت : لا عليك الذنب ذنبي ، لم يكن علي توقع مكانٍ خال ٍ بالمطلق حتى في هذا الصباح الباكر .

 -هل وصف لك طبيبك النفسي هواء الصباح والشمس انت أيضاً ؟؟ ((ما هذا الذي أقوله؟))

 -ماذا؟؟ أي طبيب ؟؟

 -أعني .. كنت قد رأيتك تبكين (توقّف، ما شانك انت بها لماذا تستمر في هذا الحوار الغريب)

-وهل البكاء حكر على المرضى النفسيين ؟؟

-اطلاقا لم أقصد ذلك  ، انا مريض ومع ذلك لا أستطيع البكاء.

-أنت مريضٌ نفسي ؟؟

-(ترددتُ) …هذا ما يقوله الطبيب والناس على الأقل

-(انفرجت شفتاها عن ابتسامة لطيفة كأنها شروق الشمس )وما شأنك بكل هؤلاء ليقرروا عنك ، انت ماذا تظن ؟

-ماذا اظن عن ماذا ؟؟

عن نفسك ، أأنت مريض ام لا ؟؟

 تفاجأتُ بقدرتها السريعة على اقتحام جدران حياتي دون ان تطرق الباب حتى .

-انا؟؟ لا ادري كل ما أعرفه أني لم أعد ذلك الشخص الذي كنت أعرفه .

-ومن منّا يبقى كما كان يعرف نفسه في هذه الحياة ؟؟

تساءلتُ في نفسي ((ألم تكن تبكي قبل قليل ، وها هي الآن تأخذ دور طبيبي النفسي)) .

 -معك حق ، ربما كان عليّ الاحتفاظ بصورة قديمة كي لا أتوه عن نفسي

اطلقت ضحكة خجولة ، لكنها كانت كافية لإنعاش قلبي من أعماقه وقالت : مثل هبنّقة

-من ؟؟

-هبنّقة : قصة قديمة عن شخص غبي كان يرتدي عقداً من الصدف في رقبته حتى يدلّه على نفسه فإن ضاع منه نسي من يكون ، وعادت لتضحك .

-إذن أنا أشد حمقاً من هبنّقة هذا ، فهو قد كان محتاطاً للأمر .

-اعتذر منك انا لم أعن ذلك

-لا عليك، أنا فاضل ، ومدّ يده مصافحا .

-فاضل ؟ أنا أعرفك ألست فاضل بن رويسي ؟ المغنّي ؟

-رغم لهجتها التي من الواضح انها ليست مغاربية الأصل ،وبعيدا هنا على شاطئ العيون في اقصى الغرب ، إلا أنها عرفته ، لا يدري حقاً  أيفرح أن سُمعته كمطرب وصلت أصقاع الأرض كافة،  ام يخاف لانّها لا بد سمعت عن حياته وما آلت إليه بتفاصيلها ؟؟ أعرفته قبل العاصفة أم بعدها؟

 امتقع وجهه ، وغادرته كل الأفراح التي كانت تتحلّق من حوله قبل قليل .

-اعتذر منك أنا لا أصافح الرجال ، أنا شمس المقدسي من فلسطين .

أعاد يده الخائبة إلى جسدها ، وحاول تصنّع ابتسامة سريعة قائلا :تشرفت بمعرفتك

-لطالما سمعت أغانيك مذ كنت صغيرة ، انت أيضا كنت صغيراً وقتها .

-شكراً لك ،(أراد أن يقول انّه اعتزل كل ما له علاقة بالغناء ) لكن ما أغنيه يفهمه اهل المغرب في العادة ، فهو مزيج بين لهجات شتى من تراثهم ، أضيفي إليها بعض الألفاظ الفرنسية والإسبانيّة من رواسب الاستعمار .

-ليس بالضرورة ، ربما لا تفهم الكلام كله لكن الألحان رائعة ، تأخذك إلى عالم آخر ، أليست الموسيقا لغة عالمية ؟ انت فنان وتعرف ذلك جيدا .

-بلى ، الموسيقا لغة عالمية (لكن صوتها الرقيق أذهلني عن كل ما عرفته عن الموسيقا)

 استيقظ من ذهوله ، يالها من ذكرى دافئة ، جمال البدايات لا يمكن مقارنته بأي شيء سوى استمرارها كما بدأت .

 والحصول على الأشياء لا يعني بالضرورة امتلاكها ، تماماً كما حدث معي ، لقد حصلت عليها لكني لم امتلكها .

 لماذا هذا الانزعاج الآن؟ لقد كنتُ موافقاً على ذلك منذ البداية ، وما زلت موافقا ، بل انا سعيد

 لكن النفس لا تفتأ تطلب المزيد ، فهي راغبة إن رغّبتها ، وحبيبتي كالبحر كلما نهلتُ منه ازددتُ عطشاً .

  خرجت شمس بإطلالتها المميّزة وابتسامتها الهادئة ، اقتربت منه ومدّت يدها نحوه ليمسكها بين يديه ،لفت نظره خاتم فضيّ صغير كانت قد زيّنت به يدها اليمنى ، إنه يعرف هذا الخاتم ، ابتسم ،وتماماً كما تبدّد  الشمس  ظلام هذا العالم ، بدّدت  شمس ظلام قلبه وأحزانه من جديد .

المزيد
الفصل الاول : شمس، أزهار على حافة ثقب أسود

 نادها صوت ضاحك من خلفها : شمس ألم يكن أسهل لو انك صعدت السلّم ؟!  التفت إلى مصدر الصوت لتجد Read more

قصة خمس دقائق

#قصة_05: كم من مرة أخبرتكم أني لست بخير.... لم يصدقني أحد.... ترد زوجتي منيرة فتقول : - تقول هذا فقط Read more

قصة 41

بينما يجول باسم مراسل قناة الشروق بين أحضان الشوارع يبحث عمّن يحكي له قصة من المجتمع تستحق أن تُذكر ، Read more

بلع الزجاج … قصة قصيرة

الغرفة باردة جدا ... انّه تموز وهو ليس معتاداً على هذه البرودة التي تجلبها المكيفات، أخذ ينظر إلى قطع الديكور Read more