سوق القوانين البالية

تباينت الآراء حول العالم بعد القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا الامريكيّة والقاضي بحظر الإجهاض في الولايات الامريكيّة بعد مرور 15 أسبوعاً على الحمل ، الامر الذي حدا العديد من الولايات لحظة إصدار القرار إلى تفعيل قوانين عملية سريعة لتطبيقه ، في سابقة تُعتبر اعتداءً صارخاً على الحقوق الشخصيّة للمرأة الامريكيّة كما يصفه البعض .
ويأتي هذا القرار انتصاراً للتيّار الجمهوري الأمريكي والكنيسة اللّذين لطالما طالبا بتقنين ومنع عمليات الإجهاض باعتبارها عمليات قتل ممنهجة تحت مظلّة القانون ، مذكرين بمدى المخاطر الواقعة على الصحة الجسدية والنفسيّة للمرأة الناتجة عن هذه العمليات .
كما رحّب الفاتيكان بقرار المحمة العليا ورأى فيه الطريق الصحيح للحفاظ على البناء الطبيعي للأسرة .
واحتفى حاكم ولاية ميسيسبّي بالقرار على طريقته عندما صرّح قائلا ” الآن سنرى الكثير من عربات الأطفال في الشوارع ، والمزيد من الأطفال في المدارس ،إنّه يومٌ بهيج ” .
على صعيدٍ آخر يرى الكثيرون في هذا القرار صفعةً للحريّات الشخصية في دولة تتغنّى بالحريّات كالولايات المتحدة ،وتهديداً خطيراً لحقوق المرأة ،وقوانين المساواة بين الجنسين ، وخطوة في طريق وعرة تسعى إلى تقييد المزيد من الحريّات المعمول بها حاليا، وقد يكون من أهمّها مشروعية العلاقات المثليّة .
وخرج الرئيس الأمريكي “جو بايدن ” في خطاب ٍ صريح مبدياً أسفه لإصدار هذا القرار ، واعتبره تراجعاً عند النهج الأمريكي الحرّ .
وأبدت منظمة الصحة العالمية استياءها من القرار مؤكّدة على حد وصفها أنّه “نكسة كبيرة للصحة الإنجابية للمرأة الأمريكيّة” .
يُذكر أنّ منظمة الصحّة العالمية قد نشرت في وقت ٍ سابق أن ما بين 40-50 مليون حالة إجهاض تحدث سنوياً حول العالم بواقع 125حالة يومياً .
على الصعيد العربي ، لم تظهر بعد أي ردود فعل صريحة حول القرار الأمريكي ، واعتبار البعض –أن القرار شان داخلي أمريكي بحت – لهو وصفٌ غير دقيق للواقع .
لطالما سوّقت الولايات المتّحدة نفسها كراعية أولى للسلام والحريّات ، وكانت دائما السابقة بصياغة القوانين والأنظمة الداعمة للحريّة ، واستطاعت بهيمنتها السياسية فرض هذه القوانين بالترغيب مرة وبالترهيب مرّات عديدة ، وربطت مساعداتها الغذائية والإغاثية لدول العالم الثالث –تحديداً- بتعديلات جوهرية على الدساتير والقوانين المعمول بها في هذه البلاد .
ولا يفوتك عزيزي القارئ أن الدول العربية ذات الغالبية المسلمة لا بد نظرت إلى القرار” كعودة الابن الضّال إلى حضن والده ” فموقف الإسلام من الإجهاض واضح وصريح ، والقرار الأمريكي لم يأتِ بأي جديد .
على الصعيد الفلسطيني لم تصدر بعد أي ردود او تعليقات من الحركة النسوية الفلسطينيّة ، تلك التي احتفلت كثيراً بإصدار اتفاقية سيداو ، ودعت إلى تضمين بنودها في قانون الأحوال الشخصيّة الفلسطيني متجاهلة ً المخاطر التي تحملها هذه الاتفاقية في طيّاتها والتي ستدمّر البنية المجتمعية والعقدية للمجتمع الفلسطيني تحت مسمى –قانون حماية الاسرة – .
سيداو – وهي للعلم- رؤية غربية وتصوّر شامل لحياة المرأة المعاصرة ، وليست قانوناً او اتفاقية دولية مُلزِمة ، تضمن للمرأة حريّة الإجهاض دون وثيقة زواج .
هل ستعود الحركة النسوية للتظاهر مجدداً من اجل تطبيق سيداو في فلسطين بعد القرار الأمريكي ؟ ألم يُظهر تبني المجتمعات العربية لسيداو حقيقة أننا نشتري القوانين البالية بعد أن يتخلّص منها أصحابها الذين وضعوها بأنفسهم ؟
على المجتمعات العربية ان تتوقف عن كونها فأر تجارب لأفكار الغرب ، وان تنتهج نهجاً يليق بتاريخها وعاداتها وتقاليدها المستمدّة من دينها قبل كل شيء ، فبين أيدينا كتاب جاء تبياناً لكلّ شيء .
وبعيداً عن أعداد المتظاهرات والمتظاهرين ضد قانون حظر الإجهاض الأمريكي ، لا نستطيع القول إلا أنّ قراراً صادراً من محكمة كمحكمة العدل العليا الامريكية يُظهر حقيقة ً مدى الوجع الأمريكي نتيجة انتهاج سياسات الحريّة المطلقة في العلاقات ، ومدى ما تعانيه الاسرة الامريكية من تفكّكٍ أسريّ ، الامر الذي حدا المحكمة إلى اتّخاذه .
وجاء قرار تقنين اقتناء الأسلحة والذّي وقّع عليه الرئيس الأمريكي بنفسه في الأسبوع ذاته ، صرخة أخرى في وجه الأزمات الإنسانية التي يعاني منها المجتمع الأمريكي نتيحة تكرار عمليات القتل الجماعي من قِبل مراهقين قادرين على اقتناء السلاح دون أي رادع .
جميع ما سبق عليه ان يدفع مجتمعاتنا نحو تفكيرٍ عميق وواعٍ ، لا ننكر أن المجتمعات العربية تعاني من مشاكل حقيقيّة لا يمكن حلّها بمجرّد تجاهلها ، لكن الدواء مهما كان قويّاً لن يكون شافياً إذا وُصِفَ لغير ما صُنِعَ له .

يبدو أن هذا العصر سيشهد بشكل ٍعلني سقوط الأقنعة المبهرجة عن الفردوس الأمريكي وحقيقة هيمنته وسيطرته على العالم ، وربما تكشف لنا الأيام القادمة عن مدى الوهن الذّي يدبّ في الإدارة السياسية الخارجية ، بعد الأزمة الأوكرانية ، تماماً كما تكشّفت المنظومة المجتمعية والأخلاقية بعد سنّ قانون حظر الإجهاض ، وإنّ غداً لناظره قريب .

المزيد
افريقيا المسلمة .. التي أُجبرت على خلع حجابها الجزء الأول … “الانتشار”

افريقيا المسلمة .. التي أُجبرت على خلع حجابها الجزء الأول ... "الانتشار" اعتادت كتب التاريخ المدرسي التي درسناها عبر مراحل Read more

إفريقيا المسلمة…. التي أجبرت على خلع حجابها الجزء الثاني “الكشوفات الجغرافية “

وقفنا عزيزي القارئ في المقال السابق عند حقيقة أن الإسلام دخل وسط إفريقيا وجنوبها ، عن طريق التجارة وهجرة القبائل Read more

افريقيا المسلمة التي أجبرت على خلع حجابها الجزء الثالث: الاندلس..إفريقيا … من جديد

تحدّثنا عزيزي القارئ في المقال السابق كيف كان لحركة الكشوفات الجغرافية الأثر البالغ في انفتاح الوسط والجنوب الإفريقي على العالم Read more

أمّ اللّوز ….. وأثر الفراشة

تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام في فلسطين بأخبار امتحانات الثانوية العامة ، ذلك الامتحان الّذي يحدد المصير الاكاديميّ لآلاف Read more