النيل والعلاقات الأثيوبية المصرية في العصور الوسطى

* في هذا المقال : دور إثيوبيا في الحملات الصليبية على مصر خلال العصور الوسطى…كيف حاولت إثيوبيا آنذاك قطع مياه نهر النيل عن مصر وحصارها اقتصادياً والهجوم على حدودها الجنوبية..

لم يغب عن قادة أوروبا أصحاب المشاريع الاستيطانية الصليبية خلال فترة العصور الوسطى فكرة الاستفادة من ملوك الحبشة (إثيوبيا) في حرب المسلمين، فأرسلت البابوية سفارات عدة في تلك الفترة إلى ملوك الحبشة؛ لحثهم على المشاركة في حرب المسلمين.
ومن تلك السفارات البابوية للحبشة: سفارة البابا يوحنا الثاني والعشرون التي أرسلها من الدومنيكان إلى الحبشة عام٧١٦هـ/١٣١٦م ولكن رجالها وقعوا في قبضة المماليك، ونفس المصير واجهته سفارة أخرى عام ٧٣٩هـ/ ١٣٣٨م.
ومع تفاقم الصراع بين المسلمين الأحباش وبين ملوك الحبشة المسيحيين..تأصلت الفكرة الصليبية عند ملوك الأحباش؛ والتي كانت دافعًا لهم إلى أن يوجهوا عدوانهم وجهتين في آن واحد: وجهة تستهدف إبادة العناصر الإسلامية في الحبشة نفسها، ووجهة تستهدف محاربة مصر راعية مصالح المسلمين الأحباش.
لذلك سعى ملوك الأحباش للتعاون مع أوروبا من أجل السيطرة على مداخل البحر الأحمر وحصار مصر من الجنوب.. وبالتالي قطع شريان التجارة الدولية المارة لمصر؛ والتي كانت المورد الرئيسي للدخل في مصر آنذاك..أي حصار اقتصادي خانق.
كما رأى ملوك الأحباش في تلك الفترة، أنه لن يتم استكمال تجويع مصر إلا بتحويل مجرى النيل في الحبشة(إثيوبيا)، لذلك بدأ ملوك الحبشة منذ القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ في إطلاق نغمة جديدة في رسائلهم التهديدية إلى مصر، فلأول مرة نقرأ صراحة عن بناء سد يحول دون وصول النيل إلى مصر، وكان مما جاء في بعض تلك الرسائل أن “نيل مصر الذي به قوام أمرها وصلاح أحوال ساكنيها مجراه من بلادي، وأنا أسُدّه”. في المقابل، استقبل سلاطين المماليك هذه الرسائل باستهزاء وسخرية بسبب الفارق الكبير بين القوتين آنذاك، حيث كانت سلطنة المماليك دولة عالمية لا يُدانيها في قوتها إلا دولة المغول، ولم يكن الأحباش يجرؤون على مجاراتهم أو التمدُّد في مناطقهم.
وفي هذا السياق تتضمن المصادر التاريخية إشارات عديدة إلى استمرار ملوك الحبشة في إرسال رسائل التهديد بقطع مياه النيل عن مصر لسلاطين المماليك. على سبيل المثال، أرسل ملك الحبشة آنذاك رسالة بهذا المعنى إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون في مصر يُهدِّده بقطع مياه النيل، وإيذاء المسلمين في الحبشة إذا لم تتعامل القاهرة مع الأرثوذكس بصورة لائقة؛ ولمَّا لم يتمكَّن ملك الحبشة من منع النيل عن جريانه، فإنه نفَّذ تهديده باضطهاد مسلمي الحبشة، الأمر الذي جعل الناصر يُصدر مرسوما للبطريرك في مصر بأن يرسل إلى ملك الحبشة كتابا يأمره بالإقلاع عن إلحاق الأذى بمسلمي الحبشة، وهو ما امتثل له، فرضخ له ملك الحبشة في المقابل.
ورأى بعض الرحالة الأوربيين أن باستطاعة ملوك الحبشة فعل هذا، ومنهم جوردان سيفراك ، ويوحنا ماريجنولي.
وقد أشار فليب دي ميزيير philippe de Mezieres – صاحب المشروع الصليبي الكبير في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي – إلى إمكان تحويل مجرى النيل للقضاء على قوة مصر الاستراتيجية في المنطقة قضاءً تاما . ويرى أحد المؤرخين الغربيين أن ما جعل ملوك الحبشة يُعرض عن تنفيذ ذلك آنذاك، أن المسيحيين في مصر جميعا سيهلكون جوعا إن فعل هذا.
واستمرت جهود ملوك الحبشة (أثيوبيا) في الحركة الصليبية ضد مصر حتى أواخر العصور الوسطى..فعندما بلغ ملك الحبشة نبأ إغارة الملك لوزجنان ملك قبرص على الإسكندرية عام ٧٦٧هـ/ ١٣٦٥م أعد جيشاً كبيراً زحف به تجاه الشمال لمهاجمة دولة المماليك من الجنوب، ولكنه لم يكد يقترب من حدود مصر حتى علم بإنسحاب لوزجنان من الإسكندرية، فقفل عائداً إلى بلاده.
ويُذكر أن ملك الحبشة إسحق الأول قد أقدم سنة ٨١٧هـ/ ١٤١٤م على التمهيد لمؤامرة ضد دولة سلاطين المماليك، عن طريق التنسيق مع ملوك غرب أوروبا، فأرسل رسوله إلى ملوك الفرنج يؤلبهم ضد مصر، ويرسم معهم خطة مهاجمتها من الشمال ومن الجنوب، براً وبحراً. لكن يقظة الدولة المملوكية توقع بالجاسوس الذي كان سيقوم بنقل تلك الرسالة لملوك أوروبا، وهو التاجر الفارسي نور الدين التبريزي، وتم تقديمه للمحاكمة حيث أعدم جزاء غدره وخيانته.
وفي عام ٨٢٢هـ/ ١٤١٩م استدعى السلطان مؤيد شيخ إلى مجلسه المكون من القضاة وبعض مشايخ العلم، بطريك النصارى، حيث أُوقف على قدميه ووبخ وقُرّعَ، بل وهدد بالقتل، بسبب ما حل للمسلمين بالحبشة من الذل تحت حكم الحطى متملكها.
وقد استمر الشد والجذب بين المسلمين والمسيحيين في الحبشة، ففي سنة ٨٢٦هـ/ ١٤٢٣م، بلغ ملك الحبشة المسيحي أن السلطان المملوكي برْسباي أغلق كنيسة القيامة بالقدس، فما كان منه إلا أن صبَّ جام غضبه على رعاياه المسلمين، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال، وأغلق المساجد وهدمها، ثم هاجم مملكة المسلمين المجاورة في “جبرت” فهزمها، ونكَّل بأهلها.
كما ورد خبر في المصادر العربية يفيد أن الحطى بن سيف الدين أرعد ملك الحبشة بعث بجيش إلى أطراف مقابلة لأسوان عام ٨٧٣هـ/١٤٦٨م، وأوقعوا بمن هناك، ونال أهل الإسلام منهم وقع السوء، فأمر الأتابك برقوق (قبل سلطنته) البطريرك متى بن سمعان اليعقوبي بأن يكتب لملك الحبشة بالكف عن ذلك، فأجاب بعد تمنع زائد
الشاهد مما سبق أن رغبة إثيوبيا في قطع مياه النيل عن مصر ليست وليدة اللحظة الآنية..بل هي رغبة لها جذورها التاريخية وخلفيتها الإيديولوجية…

وفي الختام نسألكم الدعاء أخوكم في الله د.صابر البلتاجي…

المزيد
افريقيا المسلمة .. التي أُجبرت على خلع حجابها الجزء الأول … “الانتشار”

افريقيا المسلمة .. التي أُجبرت على خلع حجابها الجزء الأول ... "الانتشار" اعتادت كتب التاريخ المدرسي التي درسناها عبر مراحل Read more

إفريقيا المسلمة…. التي أجبرت على خلع حجابها الجزء الثاني “الكشوفات الجغرافية “

وقفنا عزيزي القارئ في المقال السابق عند حقيقة أن الإسلام دخل وسط إفريقيا وجنوبها ، عن طريق التجارة وهجرة القبائل Read more

افريقيا المسلمة التي أجبرت على خلع حجابها الجزء الثالث: الاندلس..إفريقيا … من جديد

تحدّثنا عزيزي القارئ في المقال السابق كيف كان لحركة الكشوفات الجغرافية الأثر البالغ في انفتاح الوسط والجنوب الإفريقي على العالم Read more

سوق القوانين البالية

تباينت الآراء حول العالم بعد القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا الامريكيّة والقاضي بحظر الإجهاض في الولايات الامريكيّة بعد مرور Read more