يقول الحكيم الصينيّ كونفوشيوس ” إذا بدأت رحلة الانتقام فعليك حفر مقبرتين ” . تماماً وعلى غِرار الحكمة الصينية انتهت أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسل ” ستيليتو” المُقتبس من مسلسل تركيّ ، كاشفةً اللّثام حول حقيقة جريمة القتل التي أشار إليها المسلسل في بدايته .
وتفاجأ الجمهور –الّذي لم يستطع تخمين النهاية حتى المشهد الأخير- بمقتل ” فلك” بضربة ٍعلى الرأس تلقّتها من “ألمى” ، لتقع بعدها من فوق الشرفة في مشهدٍ رأى فيه الكثيرون أنّه النهاية المثالية ، بعد كلّ الضّرر الّذي تسبّبت فيه هذه الشخصيّة لكلّ من حولها ولـ “ألمى” تحديداً، وتمّ التّستّر على مجريات الواقعة، وإغلاق ملفّ القضيّة .
هذا المشهد لم يكن الأخير، فقد كان المتابعون ينتظرون بشغف “النهاية السعيدة ” التي ستنالها ” ألمى” في نهاية القصّة ، بعد كلّ المعاناة الّتي خاضتها، والتي من المفترض أن تتمثّل بزواجها من ” زوج القتيلة” “كريم” فهي –وإن كانت قاتلة- فالأمر تمّ بالخطأ ودون نيّة مُسبقة كما قالوا ، كما أنّها كانت ضحيّةً بريئة لمؤامرات ٍ كثيرة كانت قدّ تسبّبت بها “القتيلة ” في مواقف عديدة سابقة؛ وبذلك تكون العدالة قد أخذت مجراها – برأي البعض على الأقلّ- .
“ما بعرف إذا كنتي انتي ألمى إلي حبيتها ولا وحده ثانية ” بهذه العبارة أنهى “كريم ” علاقته بـ”ألمى” مصرّحاً أن إصرارها على السير في طريق الانتقام، ومجاراة ما تعرّضت له من ظلم وردّها عليه بظلمٍ مساوٍ أو أشدّ ، جعل منها شخصاً آخر،لا يقلّ سوءاً عن أولئك الّذين تحاول الانتقام منهم، ولوّث روحها البريئة الّتي اجتمع النّاس على حبّها ، فباتت روحاً مشوّهة ًأنكرتها القلوب، حتى الطفلة الصغيرة نفرت منها مبتعدةً عنها في إشارةٍ صارخة إلى عدم قدرتها على تلمّس الجمال والبراءة في روح المرأة التي تقف أمامها من جديد –رغم عدم معرفتها بأنها من قتلت أمّها -.
“ألمى” حفرت قبرين عندما قرّرت أن تسير في طريق الانتقام، فهي عندما كانت تًعلن إعلاء راية النّصر في كلّ موقفٍ تظنّ أنها خرجت منه منتصرة مستخدمةً كلّ الأساليب المُتاحة وغير المشروعة تحت شعار “الغاية تبرّر الوسيلة” ، كانت تدفن جزءاً من روحها في ظلام الشّر والحقد، وهكذا قطعة ً قطعة حتى تلاشت براءة روحها مع خروج آخر نفسٍ من جسد ” القتيلة” .
الانتقام أو الثأر يرى فيه العلماء استجابةً تكيّفيّة يهدف من خلالها المُنتقِم إلى دفع الأذى الّذي قد يقع عليه مستقبلاً ، لأنّ الانتقام حقيقة فعلٌ غير عقلاني، فهو لا يُعيد للضّحية ما فقدته ، ولكنّه ردّ فعلٍ استباقيّ يقوم به الأفراد والمجتمعات على حدّ سواء .
كما أنّ الانتقام لا يضمن للمنتقِم –بالضرورة- الحماية المستقبليّة ، بل ربّما يحثّ الطرف الآخر على استجماع قوّة أكبر للضرب بشكل أقسى في المرّة القادمة ، الأمر الّذي يحوّل الفعل وردّ الفعل المتكرّر إلى متاهة من الأفعال وردود الأفعال غير المتناهية .
بالطبع عرفت المجتمعات الانتقام بأشكال متعدّدة يأتي الهدف منها في المقام الأول المحافظة على الأمن المجتمعي من الخارجين على الأعراف والقوانين ، واعتبر المشرّعون “الرّدع ” سلاحاً لكلّ من تسوّل له نفسه التجاوز عن المعهود .
وخرج بعض الفلاسفة للقول بأن الانتقام حالة طبيعيّة على المستوى “الأمميّ” تخلق جوّاً من المنافسة، الّتي تُعتبر ضروريّة في حركة التّغيير والبناء .
في الإسلام تكفّلت شريعة الخالق في حفظ حقوق العباد بمفهوم “القصاص” وهو لا يعني بالضرورة خلق مدينة فاضلة خالية من الأشرار ، إلا أنّه وضع خطوطاً محوطة بهالةٍ من الشرعيّة والقداسة والرهبة الّتي تمنع النّفس من اتّباع خطوات الشيطان ، وتقلّل من أعداد ضِعاف النّفوس الخائضين غِمار الشهوات المحرّمة .
وهنا وجب التّفريق بين الانتقام والقصاص ، فالانتقام ردّ فعلٍ شهوانيّ يقوده الغضب وعادة ً ما يتمّ بيد الضّحيّة ضد مؤذيها ، أما القصاص فهو ردٌّ للحقوق، ومواساة ٌ للنّفس المكلومة دون أن يجرّها للوقوع في مربّع الظلم والفساد فلا تتحوّل من روح مظلومة إلى أخرى ظالمة فاسدة ، ولذلك لا يسمح الإسلام للضحيّة بأخذ حقّها بيدها في كثيرٍ من الحالات فأنت لن تقتل بيدك قاتل أخيك ، ولن تقطع بنفسك يد من سرق مالك ، بل تتكفّل الدّولة بالأمر حفاظاً على الرّوح من اختبار تجربةٍ قاسية يتنافى فيها التّلذذ بالانتقام مع قيم الإسلام، فالروح هي جوهر الإنسان ، والإنسان جوهر العقيدة وأساسها .
إلّا أنّ الاختبار الأكبر كما يقول الفلاسفة لا يقع في الرّدود الانتقاميّة على مستوى الدّول ، والّذي ينشغل به النّاس عادةً بعيداً عن همومهم الشّخصيّة ، ولا في الجرائم الواضحة التي صدرت حولها أحكام قضائيّة قائمة على الدلائل والبراهين ،
بل يرى الفلاسفة أنّ الخطر الأكبر الّذي يقع على الرّوح وقد يجرّها إلى الانتقام يكمن في المواجهات اليوميّة ، والاحتكاك المباشر بالنّاس ، والتّعرض لطبائع مختلفة ، ينشأ عنها الحبّ تماماً كما ينشأ عنها الاختلاف ، وفي هذا الاختلاف تشتعل النّار فيجد أحدنا نفسه منجرّاً إلى الانتقام بسبب مشادّة كلاميّة ، أو انطباعاتٍ شعوريّة ، أو حتّى افتراضات ملتوية ، تفسد جمال الروح وتشعل فيها نار الحقد والغيرة .
وهنا نجد أنّ صنّاع النسخة التركيّة من المسلسل اجتمع رأيهم إلى رأي الفلاسفة عندما أطلقوا على المسلسل اسم “جرائم صغيرة ” فلنحذر على نقاء أرواحنا من الجرائم الصغيرة ،فلا نكن حفّاري قبورٍ لهذه الأرواح الطيّبة .