أزهار 3

الفصل الثالث: مروان ، أزهار على حافة ثقب أسود

مروان

أخذ الرجل الانيق بشعره البنيّ المسرّح وبزّته الرسمية في قاعة المؤتمرات الرئيسية في فندق حياة ريجنسي الدار البيضاء يذرع ما تبقى له من مساحة القاعة المكتظّة ذهاباً وإياباً ، ينظر كل بضع لحظاتٍ إلى ساعته متذمّراً ، اقتربت منه فتاة عشرينيّة  بطقم ٍ اسود رسمي ينقصه الوشاح والكاب ليصبح أشبه ما يكون بزيّ مضيفات الطيران ، وبشعرٍ نحاسيّ مصفّفٍ بعناية ،تحمل بيدها سجلّاً ورقيا وقلما ، وقد رسمت على وجهها ابتسامة واسعة .

 وقفت إلى جانبه وبحركة مرحة صبيانيّة وكزت كتفه وقالت بدلع : لم انت متجهّمٌ هكذا ؟؟

 أخرج الرجل زفيراً طويلاً رافعا رأسه إلى سقف القاعة متأمّلاً ، يا لها من قاعة فخمة، الزخارف تملأ الجدران والسقف ، والثريات تتدلى نحو الأرض كأشجار صفافٍ تدلّت على صفحة النهر .

 عاد ليواجه الفتاة الواقفة أمامه متسائلاً  

 -لم تركتِ عملك وجئت إلى هنا؟

 -كل شيء جاهز المدعوون وصل آخرهم منذ بضع دقائق ،وموائد الطعام جاهزة ،بمشروباتها واطعمتها الخفيفة ، والصحفيون أناروا آلات تصويرهم منذ أكثر من نصف ساعة ،لم يبق سوى نجوم الحفل ، بالمناسبة أين هما ،لم تأخرا كل هذا الوقت ؟؟

 -لا ادري ، هما في مكان ما يفسدان ما عكفتُ على ترتيبه لأسابيع .

  وأردف قائلاً : لا أحد يدرك مدى الضغط الذي أصابني لتنظيم هذه الاحتفالية بهذا المستوى ، وهذه النوعية من الضيوف .

-هل انت المحامي الخاص بالسيد فاضل أم مدير أعماله ؟؟

 تجاهل كلامها وأخذ يتنهّد بيأس مجيلاً نظره في الحضور من حوله ، جمعٌ كبير من الرجال والنساء ، فنانون ،مطربون ، رجال سياسة ، رؤساء أحزاب ، صحفيون ،كتّاب، رجال أعمال ، شركات لأعمال متعددة الأغراض .. كيف اجتمع كل هذا الخليط تحت سقفٍ واحد ؟؟

 قال في نفسه : أعتقد أن نصفهم لا يقرؤون الأدب ، ونصف القارئين منهم لا يفهمونه ، لقد أصبحت القراءة “صرعة ” في هذا الزّمن ، كلهم يقتنون الكتب ، ويفرغون لها غرفاً مخصصّة في بيوتهم الفارهة ، او يصنعون لها رفوفاً انيقة ً في غرف الاستقبال كدليل على مدى ثقافتهم أمام ضيوفهم ، يحملونها في السيارات ، وجولات الصباح في النوادي ، يتشدّقون بأسماء أعمالٍ لكتّاب لم يعرفوا مما كتبه هؤلاء غير عنوانه .

 قاطع أفكاره صوت الفتاة العشرينية التي لاحظت تذمّره وعادت تقول بدلع ٍ واضح : أراهن على أنك ترغب في طردهم ، ولا ترى فيهم سوى حفنة ٍ من الحمقى ومدّعي الثقافة .

 التفت إليها ببرود وقال : وهل أنتِ مختلفة ٌ عنهم ؟؟

 ردّت عليه بجديّة مصطنعة : أنا أقرأ دائما ، وهل كنت سأطلب إذنك لذلك ؟؟

 -وما آخر كتابٍ قرأتيه ؟؟

 -مطّت شفتيها بلا مبالاة وفكّرت قليلاً قبل أن تجيب : حسنٌ ، كان هناك رواية لطيفة تحكي قصة حبّ أظن أن عنوانها … نعم ” حبيبتي كالحلوى ” كان البطل رومانسياً جداً .. وأراد أن …….

 قاطعها ببروده المعهود  : نجوى، هذا ليس أدباً .. هذه قلّة الادب بعينها  .

-وما أدراك انت ؟ هل كنت كاتباً قبل أن تصبح محامياً ؟

-لا ، ولكن كما يقولون “اعرف الكتاب من عنوانه ” ،هل قرأت يوماً  لكتّاب مشهورين في القضايا الإنسانية والمشاكل الاجتماعية ؟ هل قرأت كتب شمس على سبيل المثال ؟

-عادت نجوى تنظر إليه  بلامبالاتها المعهودة وقالت :كتب شمس ؟ لا لم أفعل ، لقد حاولت ، ولكن بصراحة  أغلب النصوص معقدة ، حتى العناوين،  لا أفهم لم تختارها بهذه الصعوبة ، تستطيع ان تكون أبسط من ذلك وأكثر إمتاعاً ، حتى أني أجد كلامها مخيفاً في بعض الأحيان عدا عن أنّه مليء بالرموز الغريبة. 

 -نظر مروان إليها وقد علت وجهه أخيراً ابتسامة انتصار واضحة وسألها : عن أي كتاب تتحدّثين بالضبط ؟

 -خذ عندك “عسس الاحلام ”  ” بيوت الريح ” وأخيرا هذا الكتاب ” أبناء الطين ” أقسم ان تعويذة سحرية أسهل من هذا الكلام ، ناهيك عن الشخصيات المعقدة ، والتشبيهات الغريبة أوووه لالالا  كتبٌ كهذه كفيلة بجعلي أنتحر عند أقرب حافة .

اطلق مروان ضحكة ً كبيرة ً جداً على غير عادته ، لكن سرعان ما أعاد لنفسه اتّزانها المعهود معدّلاً ربطة عنقه ، وعاد ليقول بنبرة ٍ جديّة : هذا هو الادب الواقعي يا نجوى ، إنّه الادب الذي يعرّي الحقيقة ويحرقها وينسفها رماداً في عيون المجرمين ،ينبش في جراح المقهورين ، يقف شاهداً على عصور الظلم وحكومات الخذلان .

  وقف برهة يتأمل كلماته ثمّ أردف ، لا أنكر أنّي أيضاً أتوه احياناً بين رمزيّة الشخصيات ودلالاتها ، وكلما تعمّقت في قراءة سطورها كان المعنى أكثر جمالاً وأشدّ  قسوة .

 وعاد يهمهم بحزن ، حقاً لا أدري أي جحيم ٍ ذلك الذي تستلهم منه افكارها ، أشعر احياناً أن شمس جدول ماء صافٍ يجري من تحته بركان ملتهب ، سرعان ما سينفجر ويحرق كل ما حوله

 التفت خلفه وقد انتصبت المنصّة وبجوارها انتصب ملصقٌ كبير لغلاف كتاب :”أبناء الطين ” تأمل الغلاف الذي حمل صورة سوداء لطين رمادي ومجموعة من الأجساد النحيلة  تحاول الخروج من تحته في مظهر يدعو إلى الاشمئزاز ، ولوهلة شعر ان قلبه يرتجف بشدة ، أشاح ببصره سريعاً عن الملصق ، إنّه الطين … له مع الطين ذكريات مضطربة .. الطين والشتاء واللّعب تحت المطر.

 عادت به الذاكرة إلى الثانية عشرة من عمره ، تحديداً إلى الشارع الطيني غير المعبّد أمام منزله في أحد الاحياء الفقيرة في الدار البيضاء ، كان الوقت ظهراً عندما كان يلعب كعادته مع أبناء الجيران الّذين يكبرونه سنّاً ، في الحقيقة لم يكن يشاركهم في لعب الكرة ، كان هناك يقسم نفسه بين طرفي الشارع حيث يلعب الفريقان آخذاً بالجري خلف الكرة كلما اتجهت إلى احد الشّقين دون أي يكون قادراً على إدراكها أو لمسها ، وعندما يستبدّ به التعب كان يجلس على الطين باكياً ، وسط ضحكات الأولاد وصراخ أمّه التي أنّبته للمرة الالف بسبب لعبه حافي القدمين .

 همس لنفسه :لكن ظهيرة ذلك اليوم كانت مختلفة، بل قل كانت علامة فارقة في حياتي للأبد ، فبينما كنت أبكي كعادتي ، توقّفت أمام منزلنا شاحنة نقل قديمة ،تهالك هيكلها تحت وطأة الصدأ حتى تكاد لا تعرف لها لوناً ، وكان صوت محرّكها يجأر بأصوات غريبة توحي باقتراب انفجاره في أي لحظة .

 نزل من الشاحنة رجل طويل ونحيل يبدو التعب والحزن على ملامحه ، يحمل حقيبة لا تبدو هي الأخرى بأحسن حالاً من صاحبها أو من الحافلة التي أوصلتهما .

 خرج أبي إلى الشارع مرحّباً واحتضن الرجل الغريب ، وما لبثا ان غرقا في نوبةٍ من البكاء المحموم ، تلته أمّي بصوت نشيجٍ حزين ترحّب تارة ً وتبكي تارةً أخرى .

 أنساني المشهد مأساتي مع أبناء الجيران وكرة القدم ، شعرت ان دموعي لم يكن لها متّسع في خضمّ دائرة الحزن الماثلة أمامي .

  وفي غمرة ذلك كلّه أعلن بوق الحافلة وقت مغادرته ، أخذت العجلات تنزلق فوق الطين وتلتف حول نفسها دون ان تبرح مكانها إلا بشقّ الانفس ، ابتعدت عن المنزل شيئا فشيئاً  ليظهر من ورائها جسد صغير منكمشٌ على نفسه كأنه قطعة اثاثٍ بالية كان قد تركها احد ما في الشارع .

 كان فتى يكبرني بعامين أو ثلاثة ، طويلاً ذا بشرة ٍ بيضاء تميل إلى الصفرة ، وشعرٍ بنيّ فاتح تلمع بعض خصلاته بلون الذهب تحت أشعة الشمس ، اما هيئته فكانت متناسقة تماماً مع موكب الحافلة والحقيبة والرجل الطويل .

 التفت أبي ليواجه الفتى ،ثم هتف بصوتٍ عالٍ  “فاضل يا ولدي ” هكذا ناداه قبل أن ينقضّ عليه محتضناً إياه بقوّة مقبلاً شعره ووجهه بلهفة وشوق ، تبعته أمّي التي اخذته في حضنها وبدأت تبكي بشكلٍ هستيريّ أخافني فاستعدت دموعي التي كنت قد نسيتها وانخرطت في موجة من البكاء اللاواعي ، لم اكن ادري حقاً لم بكيت ، هل لأنهم يبكون ؟ ام لأنّ أبي وأمي اظهرا حباً لطفل لا اعرفه وانا وحيدهما المدلّل ؟

 منذ ظهيرة ذلك اليوم كانت لي مع ذلك الفتى حكاية طويلة ، بسببه انفتحت أمامي أسباب الدّنيا ، وبصحبته اغتنيت عن كل حاجة لي من الناس ومعهم ، كان كسحابة صيفٍ في حرّ قائظ ،وكجذوة مستعرة ٍ في ليل شتاءٍ بارد ، لم اعرف طريقي إلا عندما كانت قدماي تغذّ الخطى خلف ظلّه ، ولم أدرك الأمان إلا معه تحت سقف ٍ واحد ، تقلّبات حياته كانت كأمواج ٍ تمور في قلبي فيضجّ فيه الفزع خوفاً من فقدانه .

 مرّت الأسابيع الأولى في بيتنا هادئة ، استقلّ عمّي بلال غرفة ضيّقة اعتادت امّي على اتّخاذها مخزناً للحبوب والزيت والمخللات ،بعد أن أعادت تنظيفها في وقتٍ سابق وغسلت جدرانها وأرضيتها بما توفّر لديها من أدوات .

 أما أنا فكان عليّ مشاركة غرفتي وسريري مع الزائر الجديد ، الّذي أبدى انزواءه منذ اللّحظات الأولى لوصوله الغرفة ، فحشر حقيبة صغيرة حملت كلّ ما يملك في هذا العالم في إحدى زوايا الغرفة ، ومن زواية أخرى تراكمت فيها الأغطية والمفارش ، سحب لنفسه فراشاً وغطاء وأخذ يمدّهما في الفسحة المتبقيّة الفارغة وسط الغرفة ، ثم فرش جسده فوق الفراش ، ثانياً ساعديه تحت رأسه ، ونظر إليّ قائلاً : “لا تخف لم أتِ هنا لأقاسمك حياتك، ولن أقيم هنا طويلاً” .

 كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها صوته بعد صمتٍ طويل ، كدت أجزم أنّه أخرس لا يقدر على الكلام ، حتى عندما عانقاه والداي عند حضوره لم ينبس ببنت شفة ، كان صوته حازماً حزيناً ، قاسي النبرة قليلاً ، لكن لا أدري لم شعرتُ بارتياح لهذا الصوت وخيّل إليّ أن نبرة القسوة هذه قناعٌ يُخفي خلفها رقّة وطيبة دافئة .

 قام أبي بتسجيل فاضل في المدرسة ذاتها الّتي أدرس فيها ، ومع أنّه كان يكبرني بعامين رفضت إدارة المدرسة قبوله في صفه الملائم لعمره بحجّة أن مدارس القرى البعيدة لا يمكن اخذ نتائجها بمصداقيّة كبيرة، كما أن صفه المفترض لا يتّسع لقادمٍ جديد، وعليه فقد تمّ وضعه في الصف السادس، أي في نفس صفي ، وهي فرصة -كما قال مدير المدرسة- ليقوّي نفسه في أساسيّات اللّغة والرياضيات، كما أن تأخّره لعامين إضافيين لن يُضعِف الدّولة ويُؤخّر عجلة الإنتاج فيها .

 توقعتُ منه أن يصرخ مُعترضاً ، وربما لَكم مدير المدرسة على قراره الجائر، ولكنه حمل حقيبة ظهره دون مبالاة وألقى بنفسه على مقعد في نهاية الصّف ، تاركاً لنا –نحن الصغار-المقاعد الأولى وكأنّما يقول ” هذه للصغار قصار القامة أمثالكم” .

 خرج مروان من شروده حين سرت همهمة سريعة بين الحضور ، وسرعان ما اشرأبت الاعناق تُطالع نجما الأمسية مقبلين من إحدى ردهات الطابق الثاني نحو السلالم الفاخرة المفروشة بالديباج الأحمر .

 كان فاضل ببزّته الرسمية ممسكاً بيد شمس تماماً كطفلٍ يمسك بلعبة جديدة يخشى أن تضيع منه ، أما شمس فأطلّت بابتسامة مشرقة وملامح جادة تسير بتؤدة ووقار -كما يتطلّب البروتوكول في هذه المناسبات – .

 أسرع مروان ليكون في الاستقبال عند أسف الدّرج ،واشتعلت آلات التصوير تلتقط الصور المتتابعة وكأنها تخشى غياب أدنى تفصيل عنها ،وبدأ الحضور في الزّحف كلُّ نحو مقعده ، بينما وقف الإعلاميّون متحفّزين كأنهم كواسر تتأهّب للانطلاق نحو طريدتها، فكّر مرّة أخرى :لعلّ الأمر كذلك ، فمن ذاك الّذي يستطيع الوقوف في وجه ألسنتهم وأقلامهم الجاهزة دائما لنقل الأخبار، وحبك الروايات، واستخلاص النتائج، واطلاق النصائح والعِبر، بل إن المؤسسات الإعلامية اليوم أصبحت لها سلطة صنع الخبر بكل تفاصيله ، يبدأ حكاية قصيرة خلف كواليس غرف الأخبار ،ثمّ سرعان ما يصبح حقيقة تتصدّر العناوين والحوارات ، حتى في أسوأ كوابيسك لن تتمنى أن تكون خبراً يتداوله عنك  هؤلاء ، لأنّهم سيقولون بلسانك ما لم تقل ، ويشعرون عنك بما لم تشعر به، وربما يبكون عنك ويدّعون كذباً انّك بكيت .

 نظر إلى شمس وهي تنزل بفستانها المميّز سلالم الفندق ،تبدو فاتنة هذه الليلة ، هكذا سيكون رأي كل من يراها الآن ، في الأوقات الأخرى هي شخصٌ عاديّ ربما لن تلتفت إليها حتى إن هي مرّت بجانبك ، أما إن عرفتها جيداً وكنت نديماً لها لفترة من الوقت ، ستراها فاتنة، ساحرة لا تفتأ تبهرك بكل حركةٍ، ابتسامتها دفءٌ للقلب ،وغضبها  حارق كالجمر ،أما عندما تغيب عنك أو تتجنّبك، عندها فقط ستذوق مرارة البرد عارياً في شتاءٍ قارس ، اسمها شمس وهي كالشّمس تماماً، بدفئها وقسوتها .

 لكن شمس اليوم طريدة آلات الصحفيين وأقلامهم ، موضوع كتابها الأخير لن يجعلها تمرّ بسهولة عبر مقصلة الصحافة، صحيح أنّها قويّة الشّخصيّة، وناضجة كافية لتردّ عن الأسئلة الموجّهة إليها بالكفاءة المطلوبة، فهي بمثل عمري، لكنّ هذا وحده لن يكون كافياً ،أتمنى أن تمرّ الأمور على خير ،وأن يكون هذا اليوم يوماً شاقّاً آخر وحسب.

 

    

المزيد
الفصل الاول : شمس، أزهار على حافة ثقب أسود

 نادها صوت ضاحك من خلفها : شمس ألم يكن أسهل لو انك صعدت السلّم ؟!  التفت إلى مصدر الصوت لتجد Read more

الفصل الثاني: فاضل ، أزهار على حافة ثقب أسود

استدارت بعد ان كانت قد مسحت بقايا دموعٍ من عينيها ، وقالت : لا عليك الذنب ذنبي ، لم يكن Read more

أمّ اللّوز ….. وأثر الفراشة

تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام في فلسطين بأخبار امتحانات الثانوية العامة ، ذلك الامتحان الّذي يحدد المصير الاكاديميّ لآلاف Read more

قصة خمس دقائق

#قصة_05: كم من مرة أخبرتكم أني لست بخير.... لم يصدقني أحد.... ترد زوجتي منيرة فتقول : - تقول هذا فقط Read more